لا يزال موضوع الفلوريد وتأثيراته الصحية مثار نقاش بين الباحثين، فمنذ أن تبين لأطباء الأسنان قبل أكثر من 60 عاماً فائدته العالية في منع الإصابة بتسويس الأسنان، والجدل يتراوح بين فوائد تناوله إما عبر تعزيز ماء الشرب به أو على هيئة دوائية أو حتى كإضافة إلى معاجين الأسنان، وبين أضرار ذلك على جوانب شتى من الجسم كالأسنان نفسها والعظم ومناطق أخرى من الجسم. وخلال الأسابيع الماضية اشتد النقاش مع ظهور دراسات تبين أن الأطفال يتناولون كميات أعلى من المسموح به من الفلوريد عبر المشروبات ومعاجين الأسنان، وأخرى تشير إلى أن الكمية المُضافة منه إلى ماء الشرب في العديد من الولايات الأميركية تفوق أيضاً الحد المسموح به. ودراسات تطرحه كسبب محتمل في نشوء السرطان أو التهابات الكبد. وإزاء كل هذا وغيره من ظهور جمعيات للتوعية بمضار الفلوريد في ماء الشرب ومجلات متخصصة في متابعة الموضوع بصفة علمية، أقول إزاء كل هذا لا تزال رابطة طب الأسنان الأميركية ومركز السيطرة على الأمراض في الولايات المتحدة التابع للإدارة الحكومية للصحة تشدد على أهمية وفائدة الفلوريد في تعزيز المحافظة على صحة الأسنان وتقليل احتمالات الإصابة بالتسويس فيها.
* المشروبات المعززة بالفلوريد والأطفال
* طرحت الدكتورة تيريزا مارشال من كلية طب الأسنان في جامعة أيوا الأميركية، ضرورة أن يتنبه الوالدان إلى أن أطفالهما عرضة لتناول كميات عالية من مادة الفلوريد عبر استهلاك المشروبات وتركيبات الحليب الخاصة بالأطفال ومعاجين الأسنان المعززة مسبقاً بكميات مُضافة من الفلوريد، الأمر الذي يعرضهم إلى خطر الإصابة بحالة زيادة الفلوريد في الجسم، والمُؤثرة على أسنانهم سلباً، عكس ما يُرجى منه، وظهور بالتالي خطوط بيضاء وتغير في لون الأسنان الطبيعي. وتقول إن بمتابعتها حوالي 410 أطفال، تبين أن ثلثهم يعاني من هذه المشكلة، ومصدرها هو المشروبات ذات الصفة المتقدمة. وأضافت أنه يجب تثقيف الوالدين حول كمية معجون الأسنان المعززة بالفلوريد اللازم استخدام أطفالهم لها وكذلك متى تدعو الحاجة إلى تناول الفلوريد بأي صفة كانت.
وبحث الطبيبة مارشال كان ضمن دراسة أيوا للفلوريد، وفيها تمت متابعة الأطفال من حين الولادة لجوانب تناولهم كميات الفلوريد في المشروبات ومشتقات الألبان ومياه الشرب. وكان في هذه الاثناء تتم متابعة تناول الطفل للفلوريد وحالة أسنانه عبر عدة مراحل زمنية؛ وتحديداً في سن 3 و9 و12 شهرا وسن الثالثة من العمر. وبعدها استمرت متابعتهم ما بين 7 و12 سنة من العمر. وتبن من نتائج دراستها التي طرحت في المؤتمر السنوي للرابطة الأميركية لأبحاث الأسنان في منتصف شهر مارس (آذار) الماضي أن 36% من الأطفال هؤلاء لديهم خطوط الفلوريد البيضاء في أسنانهم نتيجة تراكم كميات عالية منه في أجسامهم، وهم من تناولوا مشروبات وحليبا ذا محتوى لكمية عالية من الفلوريد.
وتنصح الدكتورة باتباع نصائح الكلية الأميركية لطب الأطفال حول حاجة الأطفال للفلوريد والاقتصار على تلك الكمية دون زيادة، كما ونصحت البالغين تحري محتوى مياه الشرب من الفلوريد قبل الإقدام على استهلاك كميات أعلى منه عبر أية وسيلة. وهو ما أكد صوابه طبيب الأسنان الدكتور أحمد كنعان من جامعة ميتشيغان بالولايات المتحدة في قراءة متأنية للدراسة، وقال إن «الدراسة تتحدث عن جانب مهم وهو التنبه إلى كمية الفلوريد التي يتعرض لها الطفل، والحرص على ألا يتجاوز ذلك الحد المسموح به، وهو ما نحرص عليه نحن أطباء الأسنان، ونحث الوالدين على الاهتمام به. وأبسط مثال على هذا هو مراعاة عدم تقديم معجون الأسنان الخاص بالكبار للأطفال كي لا يتعرضوا لكميات عالية من الفلوريد». وبعد أسبوع من ظهور هذه الدراسة، اقترحت لجنة الخبراء في الأكاديمية القومية للعلوم بالولايات المتحدة على وكالة حماية البيئة، أن تقوم بإعادة تقييم كميات الفلوريد المُضافة إلى مياه الشرب في العديد من الولايات، لأن التحاليل تشير إلى أن كمياته أعلى بكثير من الحد المسموح به، الأمر الذي يعرض الناس، حسب وجه نظر الباحثين، إلى خطورة الإصابة بكسور العظام وخدوش متفاوتة العمق في منطقة الميناء المغلفة للأسنان وتغير في لونها. وهو ما عبر عنه الدكتور جون بول، بروفيسور علم الصيدلة والسموم بالمركز الطبي لجامعة كانساس ورئيس اللجنة، قائلاً إن اللجنة وبالإجماع توصلت إلى أن على وكالة حماية البيئة العمل على خفض «مستوى هدف الحد الأعلى» بالنسبة للفلوريد في مياه الشرب. بيد أن اللجنة في توصياتها لم تضع حداً للمستوى الآمن منه، وتركت الأمر للوكالة. وهو ما عابه الرئيس السابق للوكالة بوب كارتون، وتساءل حول توصيات اللجنة قائلاً: بما أنهم قالوا إن على الوكالة خفض معايير الكمية، لماذا تركوا الأمر مبهماً، ولماذا لا نزال نستمر في دعم إضافة الفلوريد لمياه الشرب. ومن المعلوم أنه منذ عام 1945، ومادة الفلوريد تُضاف إلى مياه الشرب بهدف منع تسويس الأسنان، إذْ حسب تقارير الرابطة الأميركية لطب الأسنان، فإن ذلك السلوك يقلل من نشوء التسويس فيها. والكمية المناسبة لتحقيق هذه الغاية كما يقول الدكتور كنعان هي ما بين 0.7 و1.2 مليغرام من الفلوريد لكل لتر من الماء. ولأن الفلوريد بالأصل يُمكن أن يوجد في المياه الطبيعية، فإن النتيجة قد تكون احتواء مياه الشرب على كميات أعلى من المسموح في بعض الولايات والمناطق، فالحد الأعلى هو 4 مليغرامات لكل لتر، والإحصائيات المتفائلة تقول إن أكثر من 200 ألف شخص عرضة لتناول الماء العالي بالفلوريد. هذا بالإضافة إلى أن كثيراً من المشروبات الطبيعية كالشاي أو العصائر المعلبة المعززة بالفلوريد، والأطعمة كالمنتجات البحرية وغيرها، ومحاليل غسول الفم ومعاجين الأسنان، كلها تحتوي عليه وترفع نسبته في الجسم.
* أطباء الأسنان
* وفي تعقيب مباشر لهذا التقرير، فإن الرابطة الأميركية لطب الأسنان أصدرت تقريراً جديداً أكدت فيه تبنيها ودعمها وبقوة لإضافة الفلوريد إلى مياه الشرب من حيث المبدأ. وقالت إن التقرير الجديد هو فقط لعرض ومناقشة النسب التي تفوق ما قد نصح به، ولكنها في تقريرها لن تعيد بأي حال فحص الحاجة إلى الفلوريد، ولن يثير نقاشاً أو أسئلة حول أمان إضافته إلى مياه الشرب طالما كان ضمن نسبة ما بين 0.7 و1.2 المتقدمة.
ويعلق الدكتور كنعان بقوله إن من الضروري النظر بواقعية لموضوع الفلوريد والأسنان من جهة، والفلوريد والجسم من جهة أخرى، فمركز السيطرة على الأمراض ومنع انتشارها في الولايات المتحدة يعتبر أن توفير الفلوريد واحد من أعظم الإنجازات البشرية الصحية في القرن العشرين الماضي، وهو حقيقة علمية لأن الدراسات الطبية حول تأثيراته أثبتت أنه يقي من نشوء تسويس أسنان الأطفال بنسبة تتراوح ما بين 15 إلى 40%، الأمر الذي لا يُوفره أي أمر آخر سوى الحرص على تنظيف الأسنان. وأضاف أنه برغم كل ما يُثار من اعتراضات مُحتملة للفلوريد فإن قوتها العلمية غير كافية للنصيحة بوقف تزويد الجسم بالفلوريد بأية وسيلة تحقق للجسم الفائدة كإضافته إلى مياه الشرب أو معاجين الأسنان أو استخدام أطباء الأسنان له أثناء عنايتهم بها لدى المرضى. ومقارنة التأثيرات الضارة مع الفوائد العالية غير منصفة، لأن الضرر معروف أنه يحصل بتناول كميات عالية منه، وأطباء الأسنان لم يقولوا أو ينصحوا بهذا، بل دائماً يضعون تحديداً للكمية المسموح تناولها على حسب عمر الإنسان وبالتالي حاجته.
* ما هي قصة الفلوريد بالضبط؟
> القصة باختصار شديد هي أن أطباء الأسنان لاحظوا أن الفلوريد مادة تحمي الأسنان من الإصابة بالتسويس من خلال قدرته على إضافة بنية قوية لكميات الأملاح والعناصر في السن، خاصة الأجزاء الضعيفة فيه والمُعرضة للتأثر ببكتيريا التسويس. ومن ثم ضغطوا ونجحوا في إضافة هذه المادة إلى مياه الشرب كي يُقدموا وسيلة الوقاية لكل الناس دون بذلهم العناء في تناولها كإضافات منفصلة، وهو مبدأ جميل يُطبق في عناصر أخرى عدة مثل الفوليت وبعض الفيتامينات والمعادن المُضافة إلى دقيق القمح أو إلى مجموعات متنوعة من الأطعمة أو المشروبات.
الإشكالية أن هناك مجموعات من الباحثين التفت حولهم مجموعات كثيرة من الناس حينما قالوا إن التعرض لكميات عالية، مثل ما هو متوفر في مياه الشرب في بعض المناطق أو كثرة إضافة الفلوريد لمنتجات عدة، هو أمر يُعرض المستهلك لتجمع كميات عالية مختلفة المصادر من الفلوريد في الجسم دون أن يشعر المُستهلك بكل ذلك. وقالوا إن الطفل حينما يتعرض لهذه الحالة فإن أسنانه عرضة للإصابة بتشوهات تتمثل في شقوق وخطوط بيضاء، إضافة إلى تغير في لون الأسنان. كما أن تعرض البالغين لهذا فإنه سبب في نشوء ضعف بنية العظم، الأمر الذي يُعرضه لسهولة الكسر، كما أن بعض الدراسات تشير إلى ارتفاع احتمالات إصابته بأنواع من السرطان. واللجنة المتقدمة أشارت إلى احتمالات أخرى كاضطرابات في الجهاز التناسلي والعصبي والغدد الصماء والكلى، إضافة إلى جهازي الهضم والمناعة.